الموضوع [ 5464]

أم الشهيد مثال المرأة الإماراتية المؤمنة المخلصة والتي تفيض حناناً وكرما في حضرة الرحيل..

مقال : في حضرة الرحيل .. أم شهيد




مقال-الإثنين 01 أكتوبر 2018

صحيح أن الموت هو التجربة الأقسى، وأنه أصعب ما يواجهنا في الحياة رغم كل آلامها، إذ من الصعوبة القاسية أن نتخيل الحياة بدون أحبائنا، لكنه في الوقت ذاته، صورة لمشيئة الله تعالى، وهو حق على كل المخلوقات، من البشر وغير البشر، بقوله تعالى : كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].
و لذلك يجب أن نكون دائماً على استعداد لمواجهته واستقباله بأعمالنا الصالحة التي أوصانا الله بها لاستقبال وجهه تعالى بما نحمله من طاعة وحسنات.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد منحنا الحياة فهو لا يمكن أن يسلبها بالموت. فلا يمكن أن يكون الموت سلباً للحياة، وإنما هو انتقال بها إلى الآخرة، حيث يبعثنا الله سبحانه وتعالى، إلا أن أحداً لا ينكر ما يتركه الموت من ألم وحسرة، ولا سيما عندما يرحل من تحبهم أنفسنا، وتهواهم قلوبنا،فكلما رحل من حياتنا عزيز، أخذ معه جزءً منها، إلى أن يأتي الموت فيأخذ ما بقي منا ويرحل،فإذا كانت الحياة فيض من الذكريات فإن الموت هو الحقيقة الراسخة.
صحيح أن كل إنسان زائل لا محالة، وأن حيواتنا مهما طالت سنتهي بأرواحنا إلى بارئها، إلا أن قلة يتركون آثارهم باقية فينا،وخالدة بماحملوه من قيم ومباديء، وصفات إنسانية في حياتهم.
منذ أيام رحلت أم زوجي، شهيد الإنسانية، الشهيد محمد علي البستكي، الذي قدم روحه رخيصة في سبيل الله والوطن، وفي سبيل الإنسانية أيضاً. رحلت عمتي أم الشهيد، التي قدمت ابنها للوطن، وتجرعت ألم فراقه بصبر المؤمن، بقضاء الله وقدره، مثلها في ذلك مثل الكثيرات من أمهات شهداء هذا الوطن العزيز الغالي، اللواتي ضربن أروع أمثلة التضحية والإيمان بالله تعالى، والوطن. والصبر والاحتساب إلى الله عز وجل.
من بيتها في مدينة كلباء حملت الحاجة أم محمد رسالة الأمومة، حتى إذا غيب الموت زوجها، راحت تواصل مسيرة العطاء والأمومة بصبر وتتنقل بين بيوت أولادها، لكن أكثر وقتها كانت تقضيه في بيت شهيد الإنسانية أبنها محـمد.
كانت أم محـمد تقضي جل أيامها معنا في أبوظبي ، لكن عاطفة الأمومة، جعلتها تنتقل إلى الشارقة بعد رحيل الشهيد، حيث راحت ذاكرتها تؤلمها كلما جاءت إلى بيته، من دون وجوده، لكنها ظلت تتنقل أحياناً عند أبنائها و بناتها، وتغمرهم بحنانها كشجرة وارفة الظلال.
وعلى الرغم من الأيام التي راحت تتلاحق واحداً تلو الآخر، إلا أن لأم محمـد ذاكرة حمام زاجل، فهاهي تتذكر كل التفاصيل التي كانت تعيشها مع ابنها الشهيد، بعد أن سكن الحزن قلبها الذي أتعبته السنون، وهو ما جعلنا حذرين من أن نقول لها أي خبر حزين مراعاة لصحتها التي كانت تتراجع مع الزمن.
ولعل ما يحضرني في حضرة رحيلها المؤلم، هو أنها كانت تملأ حياتنا بحنان قل نظيره، وتغمرنا والعائلة كلها بكرم، كان يدفعها للسؤال عن أفراد العائلة واحداً واحداً، ولم تنس بالسؤال حتى العاملات اللواتي كن يساعدننا في أعباء البيت. كانت تحب الجميع ،ويفرح بها الجميع عندما تكون بينهم، لأنها تجمع الأهل و تحل البركه بدعائها ووجودها معنا.
كنت أرى فيها سلوتي، في حزني الذي أقام في ثنايا النفس بعد رحيل زوجي الشهيد، إلى رحاب الله تعالى، وهاهي الآن ذكراها تحتل كل زوايا البيت وجدرانه، هاهي جدران بيتي وقد أصبحت ذكريات لشخصين يعزان علي . الشهيد و أمه رحمهما الله.
لقد كنتِ أيتها الراحلة الملجأ الذي ألجأ إليه كلما اشتاق لابنك الشهيد زوجي وحبيبي ومعلمي ورفيق دربي، فأنتِ من حملته إلى الحياة وأنتِ من زرعتِ فيه صفات الأخلاق والكرم، وربيتهِ على صفات اتصفتِ بها وتزينتِ على الدوام، فكنتِ الأنقى وصاحبة القلب الأبيض النقي الذي عُرف بالكرم الذي ليس له حدود.
كما عرف نعمة الإيمان، والتقرب من الله، حتى أنكِ كنتِ تحبين اسمك فاطمة، لأنه إسم فاطمة الزهراء رضي الله عنها وأدخلها جنانه.وكثيراً ما كنتِ تفخرين بأن اسمك مثل اسم أم الإمارات الشيخة فاطمة،أطال الله بعمرها.
كنت ملاذنا جميعاً في صعاب الأمور، وكنت ينبوع حنان بلاحدود، حتى إذا اجتمعنا عندك كنتِ كسقف الخيمة لنا، هاقد رحلتِ إلى ملكوت الله بعد رحيل شهيد الإنسانية، وكأنك أبيتِ إلا أن تحققي له أمنيته بأن لا تدمي قلبه، فتركَته يرحل بسلام قبلك إلى دنيا الخلود الأبدي، لقد كان يتمنى أن يرحل قبلك، لعدم قدرته على تحمل رحيلك أما في بيتك بمدينة كلباء حيث منزل العائلة ،فهاهم تلك الصديقات الوفيات يتقاطرن لوداعكِ، بعيون دامعة وقلوب فطرها المصاب.
كنا دائماً نجتمع عندكِ وخاصه في الأعياد و الإجازات، لكننا الآن نبدو تائهين في زحمة الحياة.
في غرفتك الخاصة التي جُهزت لك بما أردت، و بما يتناسب مع صحتكِ أغمضتِ عينيكِ تحملين صورة الشهيد في قلبك، الذي كنت تتمنين لقاءه في الفردوس الأعلى في ملكوت الله تعالى.
قال الله تعالى : ” كل نفس ذائقة الموت ” وقال أيضاً : ” فإذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولا يستقدمون ” و ” وما تدري نفس بأي أرض تموت ” .
أنه رحيلك المؤلم، الذي أدمى قلوبنا، ولكن عزاءنا فيك أنك كنتِ مثال المرأة الإماراتية المؤمنة، المخلصة، والتي تفيض حناناً وكرما، فلتنعمي في جنان الخلد، وليرحم الله روحك الطاهرة، وأن ترحلين للحاق بابنك، شهيد الإنسانية والعطاء، أما نحن الذين أحببناكما فما لنا إلا الصبر، وتقبل قضاء الله وقدره، فالموت قدر مكتوب علينا جميعاً، وخيرنا من يلاقيه وهو مؤمن مستبشر بلقاء ربه.
لقد كان لرحيلك هيبته حيث أنه ذكرني عزاؤك بعزاء شهيد الإنسانية إبنك الراحل وزجي الحبيب، حيث خيَّم الصفاء و النقاء و الهدوء و الطمأنينة وعمت خيمة العزاء مسحة روحانية إيمانية كبيرة، في حضرة رحيلك المؤلم، ولكن عزاؤنا الوحيد، هو أنها إرادة الله، وأن الله وحدة الباقي، وكل من عليها فان.
فهاهو الشريف المرتضى يقول
أروني امراً من قبضةِ الدهرِ مارقا .. ومن ليس يوماً للمنيةِ ذائقاً ،
هو الموتُ ركاضٌ إِلى كل مهجةٍ .. يُكلٌ مطايانا ويُعِيْيْ السوابقا ،
فإِن هو وَلَّىْ هارباً فهو فائتٌ .. وإِن مان يوماً طالباً كان لاحقا،
يسعى الفتى وخيولُ الموتُ تطلبُهُ .. وإِن نوى وقفةً فالموتُ ما يقفُ.
فإلى جنان الخلد أيتها الغالية الراحلة وليتغمد الله روحك الطاهرة برحمته.

http://alwatannewspaper.ae/?p=383588

الإثنين 01 أكتوبر 2018